بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 30 أكتوبر 2013

كيف يزكي المسلم نفسه باختصار الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

كيف يزكي المسلم نفسه باختصار
الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
[التزكية: حقيقتها، ثمراتها، سلوكها، مراتبها، الفناء والبقاء وعلاقتهما بالتزكية، أوراد ينصح بها]
سؤال وجه للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: أرجو من سماحتكم إعطائي نبذة موجزة عن مراحل تزكية النفس والأحوال والمقامات التي يمر بها الإنسان الذي يريد تزكية النفس عن طريق الأقدمين.
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي وأسلم على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فإن "التزكية"، وهي كلمة قرآنية، تعني السعي إلى تطهير النفس من الشوائب التي قلّما تنفك منها، والتي إن بقيت عالقةً بها تورد صاحبها المهالك، وتحيل إيمانه بالله إلى مظهر لا حقيقة له ولا فائدة منه، وأخطر هذه الشوائب الكبر، ثم العجب والحقد وحب الدنيا ومظاهرها من المال والجاه والرئاسة .. إلخ.
ويتلخص سبيل التزكية باستحواذ التوحيد يقيناً راسخاً على العقل، أي أن يتحول التوحيد من كلمة "لا إله إلا الله"! إذ يرددها اللسان إلى يقين عقلي جازم بأن الله واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، لا يشركه في شيء منها أحد. فهو وحده القائم بأمر هذا الكون كله، ومن ثم فهو الموجد والمعدم، وهو الضار والنافع، وهو المعطي والمانع..
غير أن التوحيد لا يتحول من شعار على اللسان إلى يقين راسخ في العقل، ثم تأثير على الوجدان، إلا بالإكثار من مراقبة الله، ولا يكون ذلك، إلا بالإكثار من ذكره، أي تذكره، واللسان ليس إلا أداةً لهذا التذكر. وخير سبيل لهذا الذكر والتذكر أن يربط الإنسان دائماً النعم التي تفد إليه بالمنعم، فكلما أقبلت إليه نعمة تذكّر بها المنعم وأيقن أنها وافدة إليه منه، ومن المعلوم أن نعم الله كثيرة لا تحصى. ولقد كانت هذه طريقة سيدنا رسول الله في ذكر الله عز وجل.
فإذا استمر العبد على هذا العلاج من الذكر والتذكر ترسخت عقيدة التوحيد في عقله، وغابت الفاعلية المزيفة للأغيار عن عقله وتفكيره. ثم إن هذا اليقين الاعتقادي ينعكس إلى قلبه حباً ومهابةً وخوفاً .. إذ يعلم بعقله ويشعر بفؤاده أن المحسن الأوحد في الكون هو الله، والمتصرف بالعباد والمخلوقات هو الله. فتذوب في ضرام هذه المشاعر المهيمنة تلك الشوائب التي كانت عالقة بالنفس.
فلا يرى لنفسه قيمة ذاتية حتى يتكبر بها. ولا يرى الدنيا بكل معانيها وما فيها إلا جنداً بيد الله عز وجل.
أما ما تسألني عنه من الأحوال المتمثلة فيما يسمونه الفناء والبقاء ونحوهما، فقد دأب المتصوفة المتأخرون ومن جاء على غرارهم في هذا العصر، على اعتبار هذه الأحوال مراحل على الطريق يجب على السالك أن يضع نصب عينيه الوصول إلى كل منها، ثم اجتيازها إلى التي تليها.
غير أن هذا التصور - مع السلوك الذي على أساسه - مخالف لما كان عليه السلف الصالح، بل هو مخالف لما كان عليه أئمة السالكين في هذا الطريق ومنهم رجال الرسالة القشيرية.
إن المطلوب من السالك أن يسعى بالوسيلة التي ذكرتها إلى الاصطباغ التام بحقيقة التوحيد، والغاية الوحيدة التي ينبغي أن يتمثلها في ذهنه هي أن يرقى إلى حالة يتعامل فيها مع الأسباب الكونية مع رؤية المسبب وحده، وعند هذه الغاية يصطبغ السالك بحقيقة العبودية لله عز وجل. وهي قصارى ما كان السلف الصالح يطمحون إليه.
وفي الطريق إلى هذه الغاية قد يعاني بعض السالكين مما يسمى الفناء، فيفنى أي يذهل ويغيب عن الأكوان بالمكون، فلا يرى لها وجوداً، وقد ينطق في هذه الحال بما يعبر عن شعوره هذا ويخالف الواقع والشرع.
فلنتعلم أن هذه حالة طارئة ما ينبغي أن يعدّها السالك مرحلة لا بدّ من المرور بها أو الوقوف عندها. بل عليه أن يعمل على تجنبها جهد استطاعته، فإن غُلب على أمره، فليعلم أنه ضعف ابتلي به من حيث عوفي منه أصحاب رسول الله ومن سلكوا نهجهم من التابعين وخيرة السلف الصالح. وليفعل كل ما يملك لتجاوز هذه الحالة إلى ما يسمى بالبقاء، وهو الوضع الذي يرى فيه الأسباب ويتعامل معها طبق موازين الشرع، ولكنه لا يرى لها أيّ فاعلية، ولا ينسب أي تأثير إليها.
وهذا الذي قلته عن الأحوال يقال أيضاً عما يسمونه المقامات، كمقام الصبر، ثم الشكر، ثم الرضا، ثم اليقين. إن من الخطأ أن يضع السالك نصب عينيه التنقل في هذه المقامات ليصل أخيراً إلى مقام اليقين. بل عليه منذ بدء سلوكه أن يبذل كل ما في وسعه لبلوغ أعلى مراتب اليقين. فالصبر ليس منفكاً عن اليقين، والرضا ما ينبغي أن ينفك عن الصبر، بل المطلوب ممن قرر أن يجاهد نفسه الأمارة بالسوء أن يضع نصب عينيه أن يتحلّى في وقت واحد بالصبر والرضا والشكر والتوكل واليقين. وسبيل ذلك هو الإكثار من ذكر الله الذي لا يراد منه فرقعة السبحة في اليد، وإنما المراد منه بعبارة مختصرة تذكر المكوِّن كلما رئيت الأكوان، وتذكر المنعم كلما رئيت النعم.
نعم، قد يُلجِئ نظام السلوك بعض السالكين إلى التدرج في بعض هذه المقامات، ولكنها حالات اضطرارية لأصحابها، وليست منهجاً تربوياً لعامة السالكين.
ثم اعلم يا أخي أن هذا الذي تسألني عنه، أياً كان اسمه، ذوق بل شعور وسلوك يهيمن عليه نظام الشرع، وليس علماً يُروى أو فناً يمثّل أو مهنة يستدرّ بها رزق أو تُنال بها رتبة !..
وقد قال أحد الربانيين من السلف الصالح: "كان التصوف في صدر الإسلام مسمى لا اسم له، ثم أصبح اليوم اسماً لا مسمى له".
*                      *                   *
سؤال: الدكتور الحبيب ومعلمي الشيخ محمد سعيد ثبته الله على الحق أرجو إعطائي - بشكل مختصر - ورداً يومياً لي لأسير عليه من الأذكار لأصلح نفسي وورداً آخر أجتمع عليه مع العائلة وحبذا لو يكون نفس أوراد والدك رحمه الله.
الجواب: الأوراد التي كان والدي حريصاً عليها ويوصي بها، الاستغفار قبيل الفجر مائة مرة، وشهادة "لا إله إلا الله" بعد الفجر مائة مرة، والتسبيح بصيغة "سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" مائة مرة والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة مرة، وقراءة ورد الإمام النووي، وقراءة سورة يس صباحاً مع ما تيسر من تلاوة القرآن.

[ملاحظة: هذا المقال كتب وجهز قبيل استشهاد العلامة الإمام وبتنسيق معه مباشرة، وهو من دوّن الأوراد التي ينصح بالالتزام بها].

الوطن مهاد لا بد منه للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي



الوطن مهاد لا بد منه
         للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
أجل، فما من الوطن بدّ، وما للإنسان عنه من منصرف أو غنى.
في ظله يأتلف الناس، وعلى أرضه يعيش الفكر، وفي حماه تتجمع أسباب الحياة.
وما من ريب أن ائتلاف الناس هو الأصل، وسيادة العقل فيهم هي الغاية.
ووفرة أسباب العيش هو القصد مما يسعون ويكدحون ولكن الوطن هو المهد الذي يترعرع فيه ذلك كله، كالأرض _
هي المنبت الذي لابدّ منه للقوت والزرع والثمار. ولكن العقيدة وحدها هي المعتصم والأساس.
وكما لا قيمة للأرض اذا غدت قيعاناً لا تمسك ماء، ولا تنبت زرعاً، فإنه لا قيمة للوطن إذا لم تقم من فوقه رمح جامعة، ولم يترعرع في حناياه فكر متبصر حرّ، ولم تتجمع فيه أسباب العيش الكريم.  بل قل: إنه لا يبقى للوطن من وجود إن لم يتوفر فيه هذا كله، فإنه إنما يتخذ حصنه وملاذه من هذه الثمرات ذاتها، وقد علم التاريخ و رجاله أنه ما حافظت أمة على وطنها بوقاية خير من العقل الحر، تخلص في اتباعه، والمبدأ الواحد المستقيم تجمع شملها عليه، وما ضيعت أمة أوطانها بشر من الأهواء الجانحة إذ تمعن في اتباعها، والسبل المنحرفة إذ تمضى أوزاعاً في متاهها..!
والرقيب الذي إليه تدبير هذا الأمر كله إنما هو الإسلام...
فقد علم الإسلام أهله الذين مارسوه عقيدة وعملاً، أن يجعلوا من أوطانهم سلاحاً للدفاع  عن القيم والمبادئ التي لا تستقيم الحياة بدونها. وبيَّن لهم أن فعلوا ذلك تحولت هذه القيم في أيديهم إلى أعظم سلاح يحمي لهم تلك الأوطان، ويقيها من كل عادية وسوء. أما ان جعلوها مرتعاً للأهواء، ومصطرعاً للسبل المهزوزة المنحرفة، فإن ذلك سرعان ما ينقلب سلاحاً للقضاء عليها وباباً يتسلل منه الأعداء إليها.
لقد ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وكانت مكة وطناً حبيباً إليه، ولكن الله عز وجل أراد له أن يتخذ من هذا الوطن الحبيب أرضاً لغراسة القيم والمبادئ. حتى اذا أينع الغرس، جعل من وشائجه وأغصانه سياجاً وحماية له.
ولما استعصت الأرض على الغراس، وضاعت فيها جهود الزراعة والاستنبات أراد له الله عز وجل أن يتحول عن ذلك الوطن إلى غيره. فإن الوطن الذي لا خير فيه لحماية عقيدة ولا مبدأ، لا يبقى على نفسه ولا على أصحابه. فتحول عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن في قلبه من مفارقته لحسرة وألماً... وقال له وهو مهاجر عنه، والله إنك لأحب بلاد الله إليّ ولو أن أهلك أخرجوني لما خرجت.
لقد فارق وطنه الحبيب، لأن حق الله تعالى أحب الى قلبه منه، ولم يكن في شأنه ذاك إلا كشأن ابراهيم من قبله، إذ اعتزل أباه على حبه له وشدة فراقه عليه. وقال له وهو منصرف عنه (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً)  ولقد فعل أصحابه مثل ذلك، فهجروا الوطن والدار، وفارقوا العشيرة والربع، واستغنوا عن المال والأهل، واستبدلوا بذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم وانطلقوا معه إلى حيث ينتجعون الهدى ويبلغونه الناس، واستقبلهم يثرب بوبائها وسوء مناخها، فما منهم إلا من أصيب منها بوباء أو علة.
واجتمع عليهم إلى الفقر الذي لم يألفوه المرض الذي لم يعرفوه، حتى فاض الحنين عليهم من ذلك في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبسط يديه إلى السماء قائلاً: (اللهم حبب إلينا يثرب كما حببت إلينا مكة وانقل وباءها إلى مهيعة).
أتراهم قد ضيعوا الوطن بهذا الذي فعلوه...؟
هكذا يبدو عملهم في ظاهر الأمر، وهكذا يتصور من لا يستطيع أن يعالج المحسوسات إلا بمثلها. ولكن الحقيقة أنهم إنما دافعوا بذلك عن الوطن، بل إنهم لم يكن أمامهم من سبيل لحفظه وتحصينه إلا هذا الذي فعلوه، هكذا علمهم الإسلام، وبذلك أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد علمهم الإسلام أن استبقاء الأرض والمال والأهل والسلطان، إنما يكون باستبقاء أساس ذلك كله، وإنما أساسه تقويم منهج الحق وإقامة صرح العقيدة الصادقة في القلوب.
وقد يبدو للذي يتخلى عن هذا الأساس، ويمضي متشبثاً بمظهر الأرض وما عليها أنه محافظ على ذلك كله متمكن منه، وإنما هو في الحقيقة قد يسر السبل إلى انفلاته وضياعه، ولا يغنيه أن يشتد في التشبث به إلا كما يغني الرجل أن يحبس الماء في داخل يديه، وقذ يبدو للذي ينصرف عنه إلى رعاية الأساس وحفظه أنه انما ضيع بذلك ما يظلّ الناس يتسابقون إلى امتلاكه ورعايته والتضحية بكل شيء في سبيله، وانما هو في الحقيقة ممسك بينبوع ذلك كله.
إن الذي يخيره اللصوص بين أن يقتلعوا أشجار بستانه، أو يستلوا الثمار التي عليها، يعد أحمق مجنوناً لو تعلق بالثمار ومكنهم من اقتلاع الأشجار وأن توهم عند نفسه أنه حافظ بذلك على غاية جهده ونتيجة سعيه...!
وهذه هي الحكمة العليا من تدرج كليات المصالح في حكم الشريعة الاسلامية بدءاً من أهمها وهو الدين، فالحياة، فالعقل، فالنسل، فالمال.
فإن أهمية السابق منها إنما تأتي بسبب أنه حصن ووقاية للذي يليه، فالدين ليس أهم في حققته من الحياة في مظاهرها الجزئية إلا لأنه هو الوقاية الحقيقية لها، ولا ينافي ذلك أن يضحي الانسان بحياته من أجل سلامة الدين، إذ الشأن في ذلك كالقصاص الذي لا تنافى في أن يكون هو ذاته أقوم سبيل للمحافظة على الحياة.
إذاً فلقد كان في هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عن الوطن، في سبيل حماية الدين خير وسيلة للدفاع عن الوطن وتحصينه، ولم تكن السنوات الثمان في عمر هجرته عليه الصلاة والسلام وهجرة أصحابه، إلا منهجاً بيناً راسخاً لتحقيق هذه الوسيلة، ولم يكن هذا خفياً إلا عن أعين من خفيت عنهم حقيقة الإيمان بالله ورسوله.
ولكن الأمر بعد ذلك أصبح واضحاً للجميع.
بعد سنوات ثمان... أدرك التاريخ وجميع من يؤمنون به، أن شيئاً من مظاهر البؤس والضيعة والشتات عن الوطن لم يذهب بدداً، ولم تهدر نقطة دم لمسلم هدراً، ولم تطف المحنة عليهم _ ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم _ لأن رياح المصادفة ساقتها إليهم، ولكن كل ذلك كان يجري وفق حساب... وكل ذلك كان أداء لأقساط من الثمن.. ثمن النصر والفتح وامتلاك الوطن السليب.
أتذكر يوم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من وطنه مستخفياً، يتسلل _ مهاجراً إلى يثرب في بطون الشعاب والوديان، وقد سبقه من قبله ولحقه من بعده أصحابه القلة المستضعفون ..؟
ها هم أولاء قد رجعوا إلى الوطن والأهل والمال، وقد كثروا بعد قلة وتقووا بعد ضعف واستقبلهم أولئك الذين أخرجوا بالأمس خاشعين أذلاء خاضعين..!
وهل تذكر بلالاً، وهو الذي طالما عذب فوق رمضاء مكة على أيدي المشركين؟ ها هو اليوم يصعد على الكعبة المشرفة ينادي بأعلى صوته: الله أكبر... الله أكبر..
ذلك الصوت الذي كان يهمس يوماً ما تحت أسواط العذاب: أحد .. أحد .. ها هو اليوم يجلجل فوق كعبة الله تعالى _ لا إله إلا الله محمد رسول الله، والكل منصت خاشع!!
ألا إنها لحقيقة واحدة كبرى لا ثانية لها _ هي الإسلام، فما أجهل الانسان حينما يكافح أو يناضل أو يجاهد في غير سبيله.!! إنما يكافح حينئذ عن وهم لا حقيقة له ولا طائل منه.
لقد كانت العبرة التي علمها الله تعالى عبادة من خلال أمره للرسول عليه الصلاة والسلام بالهجرة، هي: أن الدين الحق اذا فقد أو غاب،لم يغن من ورائه الوطن أو المال والأرض، بل سرعان ما يذهب كل ذلك من ورائه، أما إذا قوى شأنه وقامت في المجتمع دعائمه ورسخت في الأفئدة عقيدته فإن كل ما كان قد ذهب في سبيله من مال وأرض ووطن يعود .. يعود أقوى منه عندما ضحى أصحابه به، حيث يحرسه سياج من الكرامة والقوة والبصيرة.
وتلك هي سنة الله في الكون.! فلقد شاء أن تكون القوى المعنوية هي الحافظة للقوى والمكاسب المادية... فمهما كانت الأمة غنية في خلقها وعقيدتها السليمة ومبادئها الاجتماعية الصحيحة، فإن سلطانها المادي يغدو أكثر تماسكاً وأرسخ بقاء وأمنع جانباً.
ومهما كانت فقيرة في خلقها مضطربة في عقيدتها، تائهة أو جانحة في نظمها ومبادئها فإن سلطانها المادي يصبح أقرب إلى الاضمحلال والزوال.
وقد تصادف أن تجد أمة تائهة في عقيدتها عن جادة الصواب، منحطة في مستواها الخلقي والاجتماعي، وهي مع ذلك واقفة على قدميها في الحياة، لها بسطة في القوة والمنعة والسلطان ولكنها تمضي في الحقيقة وواقع الأمر، بسرعة مذهلة، نحو هاوية سحيقة.
وطبيعي أنك لا تحس بحركة هذا المضيّ السريع، وذلك لما تعلمه من قصر عمر الانسان أمام طول عمر التاريخ والأحقاب.
إن مثل هذه الحركة إنما تبصرها عين التاريخ، لا عين الإنسان الغافل الساهي...!!
أرأيت إلى الرجل يقف على ظهر سفينة عظيمة تمخر عباب البحر إلى الغرب، ماذا عسى أن يكون من معنى لسعيه الحثيث فوقها نحو جهة الشرق؟! إن الأمم التي تقوم حياتها على قيم جانحة، وأخلاق منحطة، وعقيدة تائهة _ إنما تسير نحو مصيرها بدافع من هذه العوامل، لا بدافع من هياجها أو حركة أفرادها - وربما اغتر الناظر بما قد تتمتع به من سيما النعمة ومظاهر القوة وأسباب الحياة، ولكن هيهات أن يغتر المفكر في واقع أمرها، المتأمل فيما أعقبته تلك العوامل من آثار خطيرة في نفوسها.
وما رأيت أسخف ممن يضرب المثل على عكس ما نقول، بدولة كأميركا، ولدت في الوجود أول البارحة، وتتطوح بها الأدواء الخطيرة اليوم، لتعلن عن نهايتها بعد غد...!! ويستدلّ على وهمه، بما في أيديها اليوم من أرقام الغنى وبما ينبسط تحت سلطانها من مظاهر البطش وأسباب النعيم...!
ماذا يفيدها هذا كله إذا لم يكن شيء منه يصنع لأفرادها إلا مزيداً من أسباب العقد النفسية والانحراف العقلي والضيق بالدنيا وأسبابها...؟!
ماذا يعني ذلك كله من أسباب الحياة، إذا لم يكن شيء من ذلك كله يساهم إلا في رفعة نسبة من يؤثرون الانتحار والموت على التقلب في أسباب البذخ والنعيم...؟
وما بال علمائهم الفكريين والنفسانيين قد شغلوا عن متعة الدنيا وأسبابها بالعكوف "في رعب وهلع" على دراسة هذه الوقائع العجيبة المذهلة وتبين أسبابها، وما بالهم يضربون نواقيس الخطر على أسماع القادة دون هدوء ليكونوا على بينة من هذا البلاء الداهم العجيب ؟
ألم يتجسد هذا كله في أروع تسمية أطلقها أحد الروائيين على واقع هذه الأمم والأيام العصيبة التي تعيش فيها دون أن تحس بخطورتها المرعبة: "الساعة الخامسة و العشرون".
وإنه لعجيب حقاً أن تجد بعض الناس ينظر _ مع هذا كله _ إلى الرجل الذي يمضي مسرعاً فوق ظهر السفينة إلى جهة الشرق، دون أن يلتفت إلى الدنيا العظيمة التي تشق طريقها تحت قدميه إلى الغرب.!!
ينظر إلى الصاروخ الذي ارتفع في الجو، أو الانسان الذي طار إلى القمر، أو البذخ الذي رقصت عليه الدنيا أو خطوط "النيون" التي أضاءت لها ناطحات السحاب _ ينظر إلى كل ذلك على أنه جاء ناسخاً لما كان يسمى بالخلق والقيم، والعقيدة الصادقة عن الكون والإنسان والحياة.
ولو كان كل شيء من هذه الظاهرة كلها مغنية للإنسان عن الحق ومعرفته واليقين به، والفضيلة والتمسك بها _ لما طوى التاريخ أمماً كانت تصنع لنفسها عرش الربوبية في الأرض، ولما رفع أمماً أخرى إلى ذروة العزة والمجد، كانت لا تملك الثوب الذي يكفي لستر عريها، ولا اللقمة الكافية لسد جوعها.
لو كان ذلك صحيحاً، لما خلفت لنا ملوك بني الأحمر فوق ربا الاندلس، آثاراً من الصولة والدولة والبذخ والمال، يبكي عليها الغادي والرائح، ويتساءل عن أمرها كل ذي عقل ولب...!! ما بال قصورهم العظيمة وسلطانهم الباذخ ومالهم الوفير،لم يغنهم عن القيم التي أهملوا الكثير منها...؟
ألم تقم دولتهم، يوم قامت، على رجال غرباء كانوا فقراء في كل شيء إلا في العقيدة الصادقة الراسخة في قلوبهم، والخلق الاسلامي العظيم المسيطر على حياتهم، ثم هل تقوضت دولتهم، يوم تقوضت إلا على رجال كانوا أغنياء في كل شيء، إلا في تلك العقيدة الراسخة وذلك الخلق الإسلامي العظيم...
ومع ذلك، فإن التاريخ وحده، هو الذي كان يرصد انطلاقتهم السريعة نحو وادي الهلاك في تلك الليالي التي كان يضج من حولهم فيها الضياء، وتسكرهم فيها نشوة اللهو والترف...
الأرض والوطن والمال والقوة بكل مظاهرها، وسيلة طبيعية لتحصين الحق والذود عنه ولكنه لا يصلح وسيلة لذلك إلا إذا تحصن هو نفسه ضمن حرز من العقيدة الصادقة، والخلق المتين والمبدأ الذي يعلو ولا يعلى عليه.
فإن رأيت أمة قد فقدت في حياتها هذا الحرز، ومع ذلك فهي تتقلب في مظاهر القوة والبطش والنعيم، فاعلم أنها ماضية إلى حتفها ما في ذلك شك.وقد يقصر الطريق أو يطول. ولكن النتيجة آتية لا ريب فيها.
واذكر وأنت ترى ذلك قول فاطر السموات والأرض:
 (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) .
صدق الله، وآمنت بكلامه وسنته في العالمين...

الحب في القرآن ودور الحب في حياة الإنسان

الحب في القرآن ودور الحب في حياة الإنسان
العلامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
الحمد لله المنعم المتفضل الذي وصعت رحمته عباده أجمعين، والصلاة والسلام على النبي الأمي الذي بعثة الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه صلاة وسلاماً دائمين، إلى يوم الدين.
وبعد: فإن حديث الحب في كتاب الله، يشمل ما يدل على حب الله عز وجل لعباده،
ويشمل ما يدل على محبة الإنسان لربه، كما يشمل ما يدل على حب الإنسان للأغيار من دون الله عز وجل. وفي القرآن تذكير للإنسان بالوظيفة التي أقامه الله عليها، خلال حديثه في ذلك كله.
فأما حديث القرآن عن حب الله للإنسان، فيتجلى في الآيات التي تتضمن تكريم الله له وأمره الملائكة بالسجود له متمثلاً في شخص أبيه آدم، سجود تحية وتكريم، كما يتجلى بتمييزه الروح السارية في كيانه عن الأرواح الأخرى، بنسبتها إلى ذاته العلية.
يقول الله عز وجل: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)
ويقول خطاباً بالملائكة: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ).
كما يتجلى حب الله للإنسان في قوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) وفي قوله (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ) كما يتجلى فيما أعلنه البيان الإلهي في آيات كثيرة من تسخير الله تعالى الكثير من مكوناته لخدمة الإنسان وتحقيق رغائبه واحتياجاته.
فهذه الآيات تلتقي كلها على جامع مشترك، هو حب الله للإنسان من حيث هو كذلك، أي بقطع النظر عن السبل المذهبية والفكرية والسلوكية المتنوعة، التي تفرّق فيها هذا المخلوق فيما بعد، تحت سلطان الدوافع الفكرية والنفسية المختلفة الكثيرة.
ثم إن المهمة العظمى التي أنيطت بالإنسان، هي العمل على استبقاء الحب الرباني ال1ي ميزه الله به عن سائر الأحياء منذ فطرته الأولى. وذلك باتباع النهج الذي رسمه الله له في قرآنه، وفصّله وزاده بيانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق سنته وهديه، وهو منهج دراية وعلم أولاً، وسلوك شخصي وتعاوني ثانياً.
فمن عمل على استبقاء هذا الحب من الله عز وجل له، من خلال الالتزام بالمنهج الذي شرعه الله وأخذه به، تنامت محبة الله له، ونال حباً آخر كسبياً منه عز وحل، بالإضافة إلى خلعة الحب التي ميز الله بها هذه الخليقة من حيث هي، وأصبح محلاً لألطافه ورحماته، وتحقق فيه معنى قول الله تعالى: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) ، وقوله في الحديث القدسي: "وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها.." الحديث. رواه البخاري من حديث أبو هريرة.
ومن أعرض عن هذه الخلعة التي اختص الله الإنسان بها منذ فجر وجوده، فتجاهل نداء الله وخطابه له، وأعرض عن المنهج الذي أمره الله باتباعه، وركب رأسه في الانقياد لرعوناته، وما ركب فيه من شهوات حيوانية دون انضباط بشرعه، سلبه الله هذه المزية وزج به في نقيضها وصدق عليه قوله عز وجل: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) وقوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)
ولكن ما هو الحب؟... وما المراد بالحب المتجه من الله للإنسان؟
أما الحب من حيث هو، فأحسب أن أدق تعريف له أن يقال: إنه تعلق الإنسان بشيء ما على وجه يؤنسه القرب منه ويوحشه الابتعاد عنه.
وأم المراد بحب الله للإنسان، فلا شك أن كلاً من الاستئناس والاستيحاش غير وارد في حق الله تعالى، تنزه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، ولكن هذا الذي تنزه الله عنه لا يستدعي تفسير الحب من الله تعالى للإنسان بالمعنى المجازي، كالرضا، وكمدّه بالنعم والخيرات والمثوبة والحماية من أسباب الشقاء. بل الحق أن نذهب في هذا مذهب السلف رضوان الله عليهم في تفسيرهم لآيات الصفات. فقد فسروا الصفات فيها بمعانيها الحقيقية، ولكن دون تكييف أو تشبيه. فنقول: أما وقد أثبت الله في قرآنه حبه لعباده في مثل قوله تعالى: (يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ). وقوله تعالى: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، فإن علينا أن نفهم حبه لهم بمعناه الحقيقي دون أي تأويل، ولكن دون تكييف أو تشبيه أيضاً، لقد أثبت الله لعباده الصالحين الرضا عنهم، وقرر حبه لهم. فوجب أن يكون لكل من المزيتين معناه المختلف عن الآخر. والترادف في هذا المجال غير وارد، وننزه كتاب ربنا عنه.
وإنني لشديد العجب ممن يرى شواهد محبة الله لعباده صريحة في القرآن، وهي مرتبة باسقة لم ينلها سوى الإنسان، فيمضي يتكلف أسباب حرمانه من هذه المزية العظمى، عن طريق ما يتحمله من تأويل محبة الله لعباده بالرضا عنهم، أو بما أعدّه لهم من المثوبة الأجر!!.. وقد علم كل عاقل أن الرضا غير الحب، ولذلك أثنى الله على عباده الصالحين بكل منها. كما لا يجهل عبد عرف مولاه وخالقه أن الأجر الذي يتلقاه منه مفصولاً عن مزيه حبّه له، لا يساوي شيئاً. وإذا أيقن بمحبة الله له فكل ما يفوته من نعيم الجنة هيّن وجلل.
وأما حديث القرآن عن محبة الإنسان لله، فنبينه في مثل قول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ).
وقوله عز وجل: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، وقوله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ).
ولكن ما المعنى المراد بحب الإنسان لله؟ وما الحاجة الداعية إليها أن آمن الإنسان بالله واستيقن ألوهيته ووحدانيته بعقله؟.
أما المراد بحب الإنسان لله، ففي الناس من يذهبون إلى أن الحب بمعناه الحقيقي إنما يكون بين المتجانسين من الأنداد. فالإنسان إنما يتجه بالحب إلى إنسان مثله، يعجب منه بشكله الذي يراه، أو بصوته الذي يسري إلى أذنه، أو برائحته الزكية التي تفوح من حوله، فيحبه.. ذلك لأن الصلة ما بين المحب والمحبوب في العين التي ترى والأذن التي تسمع والأنف الذي يسم والفم الذي يتذوق. أما الله عز وجل فلا سبيل لشيء من هذه الحواس إلى الإحساس به. ومن ثم فإن سبيل الحب من الإنسان لله عز وجل مسدود أو مقطوع.
هذا ما يقوله بعض الناس، وهو ما يحملهم على أن يؤولوا حب الإنسان لربه حيثما ورد في كتاب الله أو على لسان رسول الله، باتباع أوامره والانتهاء عن نواهيه. غير أن تفسير الحب هنا ب1لك يجعل المنافقين في مقدمة من يحبون الله عز وجل. إذ إنهم يطيعون الله باتباع ما أمر والانتهاء عما نهى، ويجعلون طاعتهم الظاهرة له ستاراً لكفرانهم به.
والحق أن تأويل محبة الإنسان لربه بمعني الطاعة، تمحّل والتزام لما لا يلزم. والقول بأن نوافذ الحب محصورة في الحواس الخمس، باطل من القول.. فالبصيرة الباطنة في الإنسان أقوى من بصره الظاهر، والقلب أشد إدراكاً من العين فيما يُرى، ومن الإذن فيما يُسمع. ومن ثم فإن جمال المعاني المدركة بالعقل، كثيراً ما تكون أعظم من جمال الصور الظاهرة للأعين ومن جمال الأصوات الظاهرة للآذان .. فلا ينكر إذن المعنى الحقيقي لحب الإنسان لربه عز وجل، إلا من قعد به القصور عن الإدراك، في مستوى البهائم، فلم يتجاوز حدود الحواس!.
كثيرون هم الذين عشقوا عظماء من الناس، سمعوا بهم ولم يروهم، للصفات الحميدة التي بهرت بصائرهم، ولو رأوهم لما أعجبوا منهم بمظهرهم ولا بشكل .. وإني لأعلم أن في الناس من قد بهرهم خبهم للجاحظ، لخفة روحه المنبعثة من كتاباته، ولروعة بيانه، ولسعة علمه. وهم لو رأوه لما وقعت أبصارهم منه إلى على أقبح صورة!..
إذن فالمجال له مقاييس معنوية يدركها العقل، كما أن له مقاييس حسية تلتقطها الحواس. ومن خلال هذا الشمول صح أن يوصف الله بالجميل. وصدق رسول الله القائل: (إن الله جميل يحب الجمال) رواه مسلم من حديث ابن مسعود. والجمال محبوب بكل أنواعه ومعانيه الحسية والمعنوية، على أن الجمال ليس وحده سبب الحب. بل الإحسان هو الآخر واحد من أهم أسبابه، وعظمة الذات هي أيضاً واحدة من أهم أسباب الحب.
ينبني على هذا ما ينبغي أن نعلمه من أن الذي يستحق الحب بمعناه الحقيقي إنما هو الله وحده. فإن هذه الأسباب الثلاثة للحل، ليست موجودة عند التحقيق إلا في ذاته هو.
فهو الجميل في ذاته وصفاته. وكل ما يوصف بالجمال من دونه فجماله متفرع عنه مكتسب منه. وهو المحسن الأوحد في الكون. وكل مظاهر الإحسان السارية بين الناس ليس إلا ظلالاً وأقنية وافدة من إحسانه .. وهو العظيم الذي بهرت عظمته البصائر والأفكار، في كل ما أبدع وأحكم، وفي كل ما قدر وهدى.
إذن فالله جل جلاله هو المستحق دون غيره للحب، بل لا وجه لحب ما سواه، إلا أن يكون متفرغاً عن حبه هو، كحب الرسل والأنبياء وحب من سخرهم الله لرعايتك والإحسان إليك.. وكحب الجمال الذي يتراءى في الصور والأشكال، وما تسمعه الآذان، فإنه عند التحقيق ليس منسوباً إلا إلى مبدع الجمال وخالقه وهو الله عز وجل. لذا فإن حب الإنسان لهؤلاء الأغيار متفرع في الحقيقة عن الحب الواحد، للواحد الذي لا ثاني له وهو الله عز وجل. وليس حباً منافساً لحب الله عز وجل.
ومرد هذه الحقيقة إلى ما هو معلوم من أن الإنسان مفطور على مقومات الإيمان بالله، ودل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي وأبو يعلى والطبراني من حديث الأسود بن سريع: (كل مولود يولد على الفطرة ..) الحديث. وقوله في الحديث القدسي الذي رواه مسلم وأحمد والنسائي: (.. إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاحتالتهم..)
وهذا يستلزم أن يكون الإنسان مفطوراً على محبة خالقه ومولاه.
وربما أشكل هذا على من يقول: ولكن أكثر الناس تتجه قلوبهم، منذ نعومة أظفارهم، إلى محبة المشتهيات الدنيوية، مما يتفق مع رغبات الغريزة الحيوانية في الإنسان، ولا يقف الأمر عند هذا الجد، بل يتجاوزه في أكثر الأحيان إلى أن يتشكل من هذه المحبة الهابطة ما يحجب صاحبها عن معرفة الله عز وجل، فضلاً عن محبته والتوجه بالطاعة والانقياد إليه.
والجواب أن الفطرة الإيمانية في كيان الإنسان، أيا كان، هي التي تبعث فيه مشاعر الحب بل هي التي تهيج فيه عوامل الشوق أيضاً. ومعين ذلك كله إنما هو الروح، التي أهبطت من الملأ الأعلى لتغدو سجينة في هذا القفص الجسدي إلى أجل مسمى. إنا تتشوق إلى ذلك العالم العلوي الذي أهبطت منه، وتتلهف حنيناً إلى الذات الإلهية المنسوبة إليه والقريبة (قرباً غير مكاني) منه. فهي تظل، كما قال أبو علي بن سينا عنها:
تبكي وقد ذكرت عهوداً بالحمى
بمدامع تهمي ولما تقلع
إذن فأشواق الإنسان وحنينه وعواطفه تصاعد منبعثة من روحه إلى العالم العلوي الذي أهبطت منه، أي إلى فاطرها وهو الله عز وجل.
ولكن الغرائز والشهوات الحيوانية التي ابتلى الله الإنسان بها، تصادر هذه الأشواق والعواطف، وتوجهها وتستثمرها لحسابها وتجعلها ترجماناً لرغائبها، فيقع الإنسان من جراء ذلك في وهم سرعان ما ينطلي عليه، إذ يحسب أن أشواقه التي يشعر بها إنما هي لرغائبها الغريزية، وأن حبه إنما هو لمشتهياته من الصور والأشكال التي تراها عيناه. وهي في الحقيقة ليست كذلك.
وآية هذا الذي أقول، أن في الناس من قد وصلوا إلى مشتهياتهم الغريزية، وتقلبوا في كل ما تهفوا إليه أهواؤهم الحيوانية، ولكنهم ظلموا يعانون من مشاعر تتجه بالحنين إلى المجهول، وتتشوق إلى ما لا يعرفون!.. يلذ لأحدهم التذلل وينّشي للكلمات المعبرة عنه ويطرب لها، دون أن يعرف الجهة أو الذات التي يطيب له أن يتذلل لها. كثيرون الذين يتجاوبون ويتفاعلون مع قول الشاعر:
لي لذّة في ذّلتي وخضوعي
وأحب بين يديك سفك دموعي
فإذا سألتهم عن الذات التي تتجه مشاعرهم بالتذلل لها، حاروا في الجواب. وأحالوا إلى المجهول!..
فما السر في إدراك أحدهم لهذا الشوق والحنين المنبعثين من أعماق شعوره، دون أن يدرك الجهة التي ينبعثان إليها؟!..
السر ما قلته لك من أن هذه المشاعر تتعالى من الروح القابعة في كيان الإنسان، حنيناً وشوقاً إلى الله عز وجل، ولكنها إذا تمتزج بضجيج الرغائب الغريزية الأخرى، تُصادر لحسابها فيترجمها أحدنا إلى لغة هذه الرعونات الحيوانية. ولكن أشواق الروح تظل مستمرة ويظل صوتها سارياً مختلطاً ً بذلك الضجيج، حتى بعد أن ينال أحدنا كل ما تتشوق إليه أهواؤه وغرائزه.. وعندئذ كل ما يدركه صاحب هذه الروح أن شوقاً يتفاعل في كيانه وأن حنيناً إلى شيء ما لا يزال يهيمن على مشاعره.
ولا يستبين الإنسان مصدر هذه الأشواق الصادرة منه =، ولا المحبوب المتجه إليه، إلا بعد أن يأخذ نفسه بقدر كبير من الالتزام بأوامر الله، وبعد أن يداوم على تغذية روحه بغذاء مستمر من مراقبة الله وذكره. فعندئذ يتراجع زخم الشهوات والأهواء الغريزية في كيانه، ويخفت ضجيجها، ويضعف سلطانها. فيتجلى عندئذ يتراجع زخم الشهوات والأهواء الغريزية في كيانه، ويخفت ضجيجها، ويضعف سلطانها. فيتجلى عندئذ صوت الروح، وتستبين لغتها وتتضح الذات التي تلهف اشتياقاً وحنيناً إليه وحباً له.. إنه خالقها ومولاها المنسوبة إليه ابتداء والآيلة إليه انتهاء.
وربما تخلص الإنسان من ضجيج رعوناته وأهوائه هذه، بطريقة أخرى لا تحوجه إلى جهد الالتزام والمداومة على الأوراد. وذلك عند دخوله في مدراج الشيخوخة، إذ يخمد حينئذ لهيب الغرائز، ويتراجع سلطانها عليه، فيتهيأ عندئذ لاستقبال حديث الروح والإصغاء إلى صوتها، ويستبين له عندئذ حقيقة الحب المستعر في أعماقها، ويتعرف على المحبوب الحقيقي المشوقة إليه، إنه الله عز وجل!!.. وليس أياً من الصور والأشكال التي كان ينجذب إليها ويقف عندها .. وينظر إليها، فيرى أن هذا المحبوب العظيم الذي تتشوق إليه روحه قريب منه، بل هو أقرب إليه من حبل الوريد، ويستيقن في نفسه أنه لم يكن محجوباً عنه إلا بالسحب الداكنة من رعوناته وأهوائه، فلما انجابت عنه وطوي سلطانها عن طريقه، كشف عنه الغطاء ورأى محبوبه بعين بصيرته .. وربما فوجئ بهذا الذي كان محجوباً عنه، ثم ارتفع الحجاب مما بينة وبين محبوبه الحقيقي وفطرته الإيمانية اليوم. ولربما حاول أن يعبر عن مكنون شعوره المفاجئ، فضاقت لديه العبارة في التعبير عن امتزاج ألم الشوق بلذة اللقاء بين جوانحه، فاستعار ما يقوله الشاعر ربما عن هذه النشوة ذاتها ولكن دون أن يدري:
ومن عجب أني أحن إليهم
وأسأل شوقاً عنهم وهم معي
وتبكيهم عيني وهم في سوادها
ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي
ولكن .. أفمن الضروري لتحقق الإسلام والإيمان بالله تعالى في عقل الإنسان ووعيه، أن يكون قلبه منصرفاً بالحب إلى الله؟ وما هو الدور الذي تلعبه محبة الإنسان لله في حياته، مما لا يتأتى لليقين العقلي بالله ورسوله وكتبه أن يلعبه؟..
والجواب يظهر جلياً في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ)، وفي قوله عز وجل {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }.
فقد دل كل من هاتين الآيتين على أن الإيمان العقلاني بالله لا يغني عن توجه القلب بالحب والتعظيم إلى الله عز وجل.
وسبب ذلك ما هو معروف من أن الإيمان العقلي بالله وحده، مهما استقرت جذوره يقيناً في العقل ومهما تكاثرت أدلته العلمية والمنطقية، فإنه لا يستطيع وحده أن يقود صاحبه إلى سلوك ولا يستطيع أن يصرفه عن رغيبة من رغائب النفس. إنما الذي يملك ذلك في حياة الإنسان، عواطفه القلبية، وهي الدافعة المتمثلة في الحب، والرادعة المتمثلة في الخوف، والممجدة المتمثلة بالتعظيم. في التي تقود صاحبها إلى السلوك.
أرأيت إلى ما يدركهالعقل من حقائق الكون، إن مثله كمثل المصباح المثبت في مقدمة العّربة، كل ما يتأتى منه أن يضيء الطريق الذي أمام العربة، وأن يظهره كما هو، معيداً أو مستوعراً، مستقيماً أو متعرجاً. أما الذي يدفع العربة إلى التسيار، فإنما هو الوقود المتقد غي أعماقها .. والوقود الذي يدفع الإنسان إلى الحب غنما هو الحب، يليه الخوف والتعظيم.
كثيرون هم الذين صدّقت عقولهم بوجود الله ووحدانيته وصفات ربوبيته، وجمعوا لذلك من البراهين العلمية ما لم يقف عنده كثير من أولياء الله الصالحين. ولكن يقينهم هذا لم ينهضهم إلى أي سلوك منسجم مع اليقينيات العقلية، ولم يحملهم على شيء من الالتزام بأوامر الله.
ذلك لأن عواطفهم استعمرتها الشهوات وهيمنت عليها الغرائز، فغدت محبتهم لها من دون الله عز وجل، فكانت القيادة في حياتهم لسلطان الحب، لا لقرارات العقل وأحكامه.
وإذا رأيت في مجتمعاتنا الإسلامية يظهر الاهتمام بالإسلام والغيرة عليه، ويسلك في الناس مسلك الدعوة إلى الله، ثم نظرت فوجدتهم يتخذون مبادئ الإسلام مطية ذلولاً إلى مصالحهم، ومن ثم يغيرون في مبادئه وأحكامه كما يشاؤون، بل كما تشاؤه مصالحهم الشخصية والسياسية، فاعلم أن مردّ ذلك إلى أنهم يتمتعون بإسلام عقلاني مجرد، أما قلوبهم فقد استلبتها محبة الأهواء والعصبيات والرغائب الغريزية، ومن ثم فشأنهم الغالب أن يستخدموا قناعاتهم الإسلامية لرغائبهم النفسية .. وإن مجتمعاتنا الإسلامية تفيض بهذه الظاهرة.
على أن الإدراك العقلي لحقائق الإيمان بالله عز وجل لا بد منه. بل هي المرحلة التأسيسية التي لا بد منها. ولذلك يظل القرآن يدعو الناس إلى التدبر والتفكر ويهيب بهم أن يعملوا عقولهم، وأن يتمسكوا بموازين العلم. ولكن هذا الإدراك العلمي الذي لا بد منه إنما يشكل أحد الجناحين، في مسعى الإنسان إلى مرضاة الله. أما الجناح الثاني فيتمثل في حبه للإله الذي عرفه بعقله، بل التعبير الأدق أن نقول: إنه يتمثل في أن يبادل إلهه الذي عرفه حباً بحب. وما من ريب في أن هذا الجناح الثاني هو الذي يلعب في حياة الإنسان الدور الأخطر.. إذا وجد هذا الجناح متمثلاً في محبة القلب لله عز وجل، ساق صاحبه إلى التحقق بشرائع الإسلام وأحكامه الأخلاقية، بأمانة ودون أي تلاعب أو تغيير، وإذا فقد، متمثلاً في الأغيار، ساق صاحبه إلى تجنيد الإسلام واستخدامه لما قد تعلق به عليه من تلك الأغيار.
ولننظر!.. إن ثمة حقيقة تزيدنا يقيناً بأهمية هذا الجناح الثاني، جناح الحب، في حياة الإنسان. وهي أن من تكاملت في عقله دلائل الإيمان بالله، حتى أورثته اليقين العلمي، لا يمكن أن يتحول اليقين ال1ي لديه، بعد ذلك، إلى نقيضه. أي يستحيل لمثله أن يرتد إلى الكفر بالله بدافع يقين معاكس. لأن حقائق العلم ثابتة لا تتغير، فإذا احتضنها العقل ازدادت في داخله ثباتاً ورسوخاً. إلا أن يكون إيمانه السابق مستنداً إلى ما دون اليقين من الرتب والظنون.
فإن رأيت من ارتدّ بعد يقين علمي حقيقي مستقر، فاعلم أن الذي حوّله عن الإيمان بالله إلى نقيضه إنما هو تيار الحب الغريزي للرغائب والشهوات المحرمة هيمنت على مركز القيادة من قلبه، فلم يبق لحقائق الإيمان بالله محل في قلبه، فعادت قابعة محاصرة في ساحة عقله وحده، ثم كان لا بد أن ينكره أو يتجاهله ذلك الذي هيمن عليه سلطان الرغائب والأهواء الغريزية، فراراً من تهمة ازدواج الشخصية أو التناقض القائم بين أحكام العقل وقراراته الإيمانية من جانب، وتطلعات الأهواء والرغيب العصبية والشهوانية المناقضة من جانب آخر.
وعن هذا النوع من الدرة يخبر البيان الإلهي قائلاً: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
لم يكن هذا الرجل –واسمه عند أكثر المفسرين بلعام بن باعوراء- مكلوءاً بحصن الحب لله عز وجل محمياً بسوره، فتسرب إليه الشيطان واستولي عليه وأغوى صاحبه عنه. ولم يكن للشيطان سبيل إلى إيمانه، لو كان محروساً بقلب هيمنت عليه محبة الله. ولكن قلبه كان فارغاً عن ذلك، تجوب فيه رياح الشهوات والأهواء، وهو معنى قوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ). فانتزعت تلك الرياح إيمانه وأطارته وجعلته أثراً بعد عين. وهيهات أن يكون للتصديق العقلي في هذه الحال قيمة، لأن سكر الشهوات التي هيمنت عليه أنسته قيمته ووجوده.
وعن هذا النوع من الردة أيضاً يتحدث البيان الإلهي، مرة أخرى. ولكنه هنا يؤكد بالمقابل ثبات الإيمان ورسوخه لدى أولئك الذي أحاطوه بسور الحب. يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) تلاحظ أنه جل جلاله لم يقل: فسوف يأتي الله بقوم أكثر يقيناً بحقائق الإيمان، كما هو المتوقع عند من يتوهم أن الردة إنما تكون بسبب هجوم الشكوك والريب على مركز الإيمان في العقل، وإنما قال: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه). أي فسوف يأتي الله بقوم حصّنوا إيمانهم العقلي بالله. بالمحبة القلبية له، فاستعصى على الشيطان والأهواء سبيل النيل منه أو القضاء عليه.
وكم يزهى اليوم بهذه الآية كثير من مسلمي العالم الغربي، أولئك الذين لعب الحب الدور الكبير في انجذابهم من أودية الشهوات والأهواء التي كانت مسيطرة عليهم، إلى صعيد الإيمان والعرفان وصدق الالتزام!. قال لي أحدهم، وهو فرنسي مسلم، [وقد كنت أنعي على المسلمين في العالم الإسلامي سوء حالهم وإعراضهم عن الإسلام، واستجابتهم لتيارات الحداثة والعلمانية والفكر الاستغرابي] قال لي منشّياً: أين أنت من قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ).
بقي أن نتساءل: فكيف السبيل إلى أن يحصّن أحدنا إيمانه العقلاني بالله، بحصن المحبة له، بحيث تتغلب محبته على محبة سائر الأغيار، مما قد تتعلق به الشهوات والأهواء؟.
والجواب أن السبيل إلى ذلك سهل معبّد، لو أن أحدنا التفت إليه وعزم على السير فيه. بل إن في الصالحين الذين عرفوا الله فأحبوه من يعجب لطرح هذا السؤال، إذ يرى أنه لا يصدر إلا عمن تاه عن فطرته التي فطر الله جميع عباده عليها.
السبيل إلى ذلك أن يربط الإنسان النعم الوافدة إليه بالمنعم، وهو الله عز وجل، وهو أيسر وأفضل طريقة لذكر الله. وهي ما كان رسول الله مواظباً عليها.
إذا أقبل المساء وحان وقت الرقاد، وتمددت على فراشك، وأنت مدود الجسم والأعصاب، اذكر أن نعمة الرقاد التي تنتظرها وافدة إليك من عند الله، وهي رسالة عناية بك وحب لك .. وقل ما كان رسول الله يقول عند استقباله لنعمة الرقاد..
فإذا استيقظت، وقد عادت إليك راحة الجسم والأعصاب، فاذكر أن هذه النعمة وافدة إليك من الله عز وجل، وردد ما كان رسول الله يقول عند نعمة الاستيقاظ..
فإذا قمت ودخلت الدورة، فاذكر هذه النعمة العزيزة الجديدة الوافدة إليك أيضاً من الله، وهي لطفه بك إذ صفّى كيانك ودمك من شوائب الآفات والسموم، وخاطب ربك بمثل ما كان بخاطبه به رسول الله في تلك الحال، عند كل من الدخول والخروج.
فإذا خرجت، ووقفت أمام المغسلة تغسل يديك، فاذكر هذه النعمة العجيبة، نعمة الماء في لونه الذي لا لون له، وفي رائحته لها، وفي سيولته التامة المهيأة بذلك لتطهيرك من كل ما يعافه أنفك وتشمئز منه عيناك، واذكر أنها نعمة عجيبة غالية، أرخصها وجودها متدفقة في كل مكان، واذكر أنها وافدة إليك من الله عز وجل.
فإذا جلست بعد ذلك إلى مائدة الطعام فتأمل الطعام في الأصناف الموصوفة منها على مائدتك، واذكر أنها، على تنوعها، ليست إلا ثمرة سماء أمطرت، وأرض أنبت، وأنعام سخرها الله لك لحوماً وألباناً. واذكر أنها وافدة إليك من الله عز وجل..
فإذا بدأت تأكل فاذكر نعمة المضغ والتلذذ بالطعم، ونعمة الازدراد. وتأمل كيف أن أضراسك تطحن قطعة اللحم الداخلة في فمك مع بقاء لسانك المختلط بها في نجوة من أخطار قضمه!.. واذكر أنها هي الأخرى نعمة وافدة إليك من الله عز وجل.. وخاطب ربك بمثل ما كان يخاطب به رسول الله ربه عند بدء الطعام ونهايته.. وهكذا، استقبل سائر نعم الله الواردة إليك دون انقطاع، واربطها بالمنعم جل جلاله ، واعلم أنها كلها ليست إلا رسائل حب مرسلة إليك من الله عز وجل.
أفتظن أنك حتى عندما تسير في هذا السبيل ثابتاً مستمراً فيه، ستبقى محبتك الفطرية لله راقدة في كيانك؟!.. أعتقد أن هذا الذي تظنه من أوضح المستحيلات .. ستستيقظ محبة الله في فطرتك، وسيتقد لهيبها بين جوانحك، ولسوف تستقبل رسائل حبه لك (وهي كثيرة لا تحصى) بلوعه الحنين إليه ولذة الاشتياق إلى رؤيته، ولسوف تبادله حباً بحب، وعندئذ تتراجع محبتك للأغيار من المشتهيات والأهواء والعصبيات، إذ تصبح مقودة لحبك العلوي الأقدس، بعد أن كانت قائدة له حاكمة عليه، وتدخل حينئذ في عداد من قال عنهم: (َالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ).
وصفوة القول .. إن الإسلام الذي يتعامل معه كثير من المسلمين اليوم، هو الإسلام العقلاني أو الفكري، المجرد عن دعائم العاطفة والحب .. والنتيجة التي لا مناص منها في هذه الحال، أن يتسرب إلى القلب، ثم يهيمن عليه حب الأغيار، من الرتب والمكاسب والأهواء وما يتطلبه سلطان العصبية للذات .. ونتيجة هذه النتيجة، أن يُستَخدم ذلك الإسلام الفكري المجرد، أداة طيعة لما تتطلبه العصبيات، ولما تتطلبه الخطط والأنشطة الرامية إلى نيل المكاسب والرغائب السياسية والنفسية المختلفة!!..
ومن هنا تتفجر عوامل الخلاف فالشقاق بين الأطراف، وسرعان ما يتحول ذلك إلى مكايدة واتهامات .. وهذا هو السبب الذي يجعل أنشطتهم (وما أكثرها) ولقاءاتهم وجهودهم، بل جهادهم (وما أخطرها) ينتهي بالإخفاق والعجز عن معالجة أبسط المشكلات .. إنهم يراوحون في أماكنهم وإنك لتصغي السمع، فتسمع من أنشطتهم المتنوعة جعجعة ولا ترى طحناً!..
ألا إن محاولة السير إلى الله بالتعامل مع الإسلام الفكري وحده، توثُّب للصعود إلى مرضاة الله بجناح واحد، وهيهات!.. فالفكر وحده جند من جنود النفس وحظوظها .. وإن محاولة السير إلى الله بالتعامل مع الإسلام العاطفي وحده، توثب للوصول إلى مرضاته بجناح واحد أيضاً، وهيهات!.. فالعاطفة الدينية إن لم تنضبط بأحكام الشرع والعقل تآكلت وأحرقت نفسها!..
وإنما يكون السير إلى الله بالسعي إلى بلوغ مرضاته، بجناحي العقل الذي يدرك الحقيقة، والقلب الذي يتفانى في حبها. ذلك هو الطريق الذي سلكه السلف الصالح لهذه الأمة. فوصلوا إلى ما انتهوا إليه من أعاجيب النصر والتوفيق. والله هو المسؤول والمستعان أن يكرمنا في السير إلى مرضاته بهذين الجناحين.
 
والحمد لله رب العالمين.
 
 

ليس في الإسلام أقلية وأكثرية

ليس في الإسلام أقلية وأكثرية
العلامة الشهيد د. محمد سعيد رمضان البوطي
دأبت فئات من الباحثين في الشريعة الإسلامية اليوم على استعمال كلمة "الأقليات"  تعبيراً عن غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية، وهي كلمة لا وجود لها في شيء من مصادر الشريعة الإسلامية، ولا أعلم أن في أئمة الفقهاء من استعملها من قبل.
وإنما ولدت هذه الكلمة في المجتمعات الغربية، بصدد تصنيف درجات المواطنة هناك، فالمواطنون من الدرجة الأولى فيها هم الكثرة الدينية أو العرقية، ثم تأتي رتبة الأقليات الدينية والعرقية مواطنين من الدرجة الثانية، فالكثرة والقلة فيهما هما مقياس القرب والبعد، أو العلو والهبوط هناك.
ولقد نجمت عن هذا الواقع مشكلة، لا تزال تستعصي على الحلّ الجذري، فقد استقر في أذهان كثير من القائمين على إدارة تلك المجتمعات أن عضواً غريباً التصق من جراء هذا الواقع بجسم المجتمعات الغربية، استعصى على الالتئام به والاندماج فيه، فلا أنظمتها ولا قوانينها تتسع لاستيعاب سلوكات هذا العضو الغريب ومعتقداته، ولا أكثر الفئات والجماعات التي يتألف منها هذا العضو تقبل التخلّي عن التزاماتها ومعتقداتها، وترضى بالاندماج في تيار الأنظمة والقوانين المرعية في تلك المجتمعات.
وها نحن نرى اليوم الطروحات المختلفة التي يتبادها القائمون على إدارة المجتمعات الغربية، مع المغتربين الذين جعلهم الواقع عضواً يسمون فيها بالأقلية، للوصول إلى حلّ سليم لا يهزّ شيئاً من أركان الأنظمة والقوانين، ولا يسيء في الوقت ذاته إلى الحقوق الإنسانية المشروعة لهذه الأقليات.
ولست هنا بصدد الحديث عن هذه الطروحات ومدى جدواها، والأكثر ضمانه لحماية الأنظمة والقوانين ولرعاية حقوق الاقليات.. وإنما أنا بصدد بيان الفرق الكبير بين أنظمة المجتمعات الغربية، وأحكام الشريعة الإسلامية في هذه المسألة التي كادت أن تصبح معضلة في هذا العصر.
غير أن هذه الكلمة بهذا القصد لا مكان ولا معنى لها في نظام الشريعة الإسلامية، وفي المجتمعات التي تأخذ نفسها بتعاليمها وأحكامها، إذ أن كل من احتضنتهم دار الإسلام وأظلهم النظام الإسلامي الجامع، يتمتعون بمعنى المواطنة في درجة واحدة، على اختلاف أديانهم وأعراقهم، قلوا أو كثروا.
فأنت مهما نبشت بطون الكتب الفقهية وأمهاتها، فلن تعثر على تصنيف يقسم رعايا الدولة الإسلامية إلى مواطنين أساسيين من الدرجة الأولى، وإلى أقليات دينية أو عرقية من الدرجة الثانية.
إن التعبير الشامل لكل من تستوعبهم دار الإسلام، هو كلمة "رعايا" وهي تعني المواطنين من حيث مسؤولية الدولة عن رعايتهم وحمايتهم والنظر في شؤونهم ومصالحهم. أما التعبير الذي يقابل كلمة الأقليات، فهو غير المسلمين أياً كانوا، غير أن كلمة الأقليات هذه مرفوضة وغير موجودة في قاموس مصطلحات الشريعة الإسلامية لما تحمله من دلالة غير لائقة.
والجامع المشترك بين المسلمين وغيرهم، أياً كان الاسم الجامع لهم والمعبر عنهم، هو أن دار الإسلام تشملهم جميعاً، وأن النظام الإسلامي المتسع للمسلمين وغيرهم، يسري عليهم كلهم طبقاً لقاعدة: "لهم مالنا وعليهم ما علينا". ومن ثم فإن معنى "المواطنة" التي يعبر عنها أحياناً بكلمة "رعايا" يشمل المسلمين وغيرهم على درجة واحدة من حيث نظر الدولة ومعاملتها السياسية والاجتماعية للأفراد، دون أي ملاحظة لخصوصية كثرة أو قلة.
غير أن هذا لا ينطبق على ما قد يشيع بين أفراد المسلمين بعضهم مع بعض من خصوصيات الأخوة والعلاقات الدينية، والصلات التي تتنامى بينهم بحكم تلاقيهم على العبادات ذات النهج الواحد كالصلاة جماعة، وصلاة الجمعة والأعياد ونحوها، كما أن هذا لا ينطبق على ما يشيع بين الكتابيين أنفسهم أيضاً، من الخصوصيات ذاتها.
إن هذه الخصوصيات التي تنبثق من دوائر الاختلافات الدينية، شأنها كشأن الخصوصيات التي تنبثق من دوائر الأعراف المختلفة، ووشائج الأرحام وصلات القرابة. إنها موجودة ولها سلطانها في سائر المجتمعات جميعها قديماً وحديثاً، غير أن الذي يصهرها ويجمعها أخيراً في دائرة إنسانية شاملة، وهو النظام الإسلامي العادل الذي يشمل الجميع بمعاملة واحدة من حيث الحقوق المرعية، والواجبات المطلوبة، وحسن الصلة ما بين الحكام والمواطنين.
إن النظامَ الـمُنبثق عن أحكام الشريعة الإسلامية لا توجد في قاموسه كلمةُ أقلياتٍ قط، ذلك لأن هذه الأحكام روعي في تشريعها حالُ كلِّ مَن تحتضنهم دارُ الإسلام من مسلمين وغيرِهم، وأعطت لكلٍّ منهم حقوقه الإنسانية التي يتمتع بها دون أي حساب لقِلَّةٍ أو كَثرةٍ أو مواطنٍ أو وافدٍ، انطلاقاً من اهتمامِها بإنسانية الإنسان أيّاً كان دينه أو أصلُه، وشدّةِ رحمتِها به.
ومن هنا فلا معنى لما يسميه بعض الناس (تسامح) الإسلام مع أهل الكتاب، لأن كلمة التسامح تعني الـتَّجاوُزَ عن الحقِّ  على سبيل التَّفضُّل والمسامحة، أي بمعنىً آخر أن الإسلام أعطى أهل الكتاب ما ليس من حقهم تجاوزاً منه وتفضُّلاً.
بينما حقيقةُ الأمر أنَّ أحكامَ أهل الذمّة كلَّها تنطلق من تكريم الله للإنسان وتدور على محور واحد هو ترسيخُ ضمانات العدل في التعامل والـمُعايشة بين المسلمين وأهل الكتاب في ظل المجتمع الإسلامي.
فمن أهم مستلزمات الكرامة التي هي ثمرةُ تكريم الله للإنسان أن يربَأَ بنفسه عن الوقوع تحت مِنَنِ الإحسان ومشاعر الرحمة، وأن يَنشُد بدلاً عن ذلك النِّدِّيَّة في التعامل وأصول التعايش، دون أن يسريَ خلال ذلك تفضُّلٌ من طرفٍ على طرف.
 قلت: إن النظام المنبثق عن أحكام الشريعة الإسلامية لا توجد في قاموسه كلمة الأقليات قط، وإن تاريخ المجتمعات الإسلامية التي كانت تستظل بأحكام الإسلام لم يمر بهذه الكلمة في شيء من أطواره وتقلباته السياسية، فما السبب؟ وما نقطة الفرق في هذا بين أنظمة الشريعة الإسلامية وأنظمة المجتمعات الغربية اليوم؟
إن السبب يتمثل فيما يلي: إن الأحكام الإسلامية المتعلقة بنظام المجتمعات الإسلامية -على الرغم من أن كثيراً منها لا يجوز أن يطبق إلا في أرض إسلامية، أو في دار الإسلام، حسب المصطلح الفقهي- إلا أنها ليست خاصة بالمسلمين دون غيرهم، بل روعي في تشريعها حال كل من تحتضنهم دار الإسلام من مسلمين وغيرهم دون تفريق، بين مستوطنين ووافدين، وبين مقيمين وسائحين، أما المسلمون منهم فيربطهم بقوانينها وأنظمتها انتماؤهم الديني إلى جانب ضرورة انسجامهم مع نظامها الإداري والاجتماعي، وأما غير المسلمين فتربطهم بها ضرورة التجاوب مع أنظمتها العامة التي تعنى برعاية الحقوق والواجبات لشرائح الناس وفئاتهم على اختلافها، على أساس من العدالة التامة ودون أي تمييز.
ولعل في الناس من يَعجَب إن ذكرتهم بأنه ليس في الأنظمة والقوانين الإسلامية ما يرسم أي فرق بين مستوطنين أصليين على أرض الإسلام، ومتجنسين طارئين عليها، ووافدين مقيمين فيها إلى أجل، ما دام الكل يجنحون إلى السلم، ولا يتطلعون في وجودهم الدائم أو الموقوت على أي عدوان أو كيد، وأن النظام الواحد يشملهم جميعاً ويرعاهم دون امتياز ولا تفريق.
وعندما يلتقي على أرض الإسلام من جراء هذا الشمول أكثر من دين واحد، فإن الشريعة الإسلامية ترعى لكل ذي دين حقه في ممارسته، دون أي ظلم أو اضطهاد، ضمن دائرة النظام الإداري العادل والشامل لمصلحة الجميع.
وبوسعنا أن نتبين في الدولة الإسلامية الأولى التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة أبرز نموذج تطبيقي لهذه الحقيقة الهامة التي ينبغي أن نتبيّنها. إن المجتمع الذي تكونت منه تلك الدولة لم يعرف في أي عهد من عهوده ما يسمى اليوم: أكثرية وأقلية، بل ظل يحتضن الكل، على أنهم رعايا للدولة الإسلامية الفتية. ولقد تألفت تلك الرعايا من غالبية مسلمة، ومن قلة من القبائل اليهودية. فما نبذت الدولة الإسلامية الدين المخالف، ولم تحرم أصحابه من الحقوق التي تمتعت بها الغالبية المسلمة، بل نص نظام تلك الدولة على أن اليهود يتمتعون بدينهم وحقوقهم الإنسانية كاملة، كالمسلمين سواء بسواء. وإليكم النص الذي يشكل جزءاً من دستور أملاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان هو المعمول به: "يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ –أي يهلك- إلا نفسه".
ويقول في بند آخر مؤكداً أن أبواب الدولة الإسلامية مفتوحة للمقبلين إليها أياً كانوا، وللنازحين عنها أياً كانوا دون تفريق: "من خرج من المدينة فهو آمن، ومن قعد فيها فهو آمن".
ولقد سارت سلسلة الدول الإسلامية فيما بعد على هذا النهج، لا تستبدل به ولا تحيد عنه، ولم يزدها اتساعها وتراميها في الآفاق إلا رسوخاً على هذا النهج، والدليل على ذلك أن البلاد التي دخلت في الفتح الإسلامي كمصر والشام والعراق لم يُكره أحدٌ من أهلها على الدخول في الإسلام، فبقي ما يقارب نصف أهل الشام على نصرانيتهم، وظل كثير من أقباط مصر على دينهم، وكذلك الشأن في بلاد فارس لم يفتن نصراني منهم عن نصرانيته ولا يهودي عن يهوديته، وأظلهم جميعاً نظام المجتمع الإسلامي، يرعى فيهم العدالة التامة دون أي حساب لقلة أو كثرة أو مواطن أو وافد. وإنما سرى الإسلام فيما بعد بالتدريج وبشكل ذاتي على عقولهم يقيناً، ثم إلى قلوبهم حباً دون أي إلزام مادي أو أدبي.
ودعوني أضعكم أمام مشهدين من مئات المشاهد التي تبرز غياب كتلتي الأكثرية والأقلية داخل تيار العدالة الاجتماعية الراسخة التي تتعالى على الانتماءات الدينية والعرقية في ظل الحكم الإسلامي:
أما المشهد الأول منهما، فهو انتصافٌ لمظلوم، شاب من أقباط مصر خاصمه ولد لعمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه في فرس له، فأوسعه ابن عمرو ضرباً بسوط في يده، قائلاً له: خذها وأنا ابن الأكرمين! فما كان من الشاب القبطي إلا أن اتجه إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في المدينة المنورة، وشكا إليه ما فعل به ابن عمرو بن العاص في مِصر، فأرسل عمر رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص أن يأتيه مع ابنه محمد إلى المدينة، وأكرم وفادة الشاب المصري واستبقاه عنده إلى أن وصل عمرو بن العاص وابنه إلى المدينة. يقول أنس بن مالك راوي هذا الخبر: فوالله أنا عند عُمر، وإذ نحن بعمرو قد أقبل ومعه ابنه، فقال عمر: أين المصري؟ قال: ها أنا ذا. قال: دُونك الدُّرة فاضرب بها ابن الأكرمين، فضربه حتى أثخنه، وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين، ثم قال للمصري: أجلها على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك إلا بفضل سلطانه، ثم أقبل إلى عمرو بن العاص يقول له: أيا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟
وأما المشهد الثاني، ففيه انتصاف من ظالم، إنه جبلة بن الأيهم ملك من ملوك الغساسنة، أقبل من الشام إلى المدينة مسلماً، فاستقبله عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وأكرم وفادته، ثم أراد عمر الحج فخرج جبلة معه، فبينما هو يطوف بالبيت إذ وطئ إزاره رجل من بني فزارة، فانحلَّ فرفع جبلة يده فهشم أنف الفزاري، فشكا الفزاري أمره إلى عمر، فبعث إلى جبلة فأتاه، فقال: ما هذا؟ قال: إنه تعمد حل إزاري، ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسيف. فقال له عمر: قد أقررت بذلك! فإما أن تُرضي الرجل، وإما أن أقيده منك. قال: وما تصنع بي؟ قال: آمر بهشم أنفك كما فعلت. فاستمهله جبلة تلك الليلة ليرى رأيه في الأمر فأمهله، فلما انتشرت العتمة وهدأت الحركة ولى جبلة عائداً إلى القسطنطينية مرتداً إلى نصرانيته. ثم إنه ندم على ارتداده وتركه الإسلام، وكان كلما اهتاج به الندم تغنى باكياً بأبيات له يقول فيها :